-1-
للمرة الألف رقم هاتفها لا يجيب…
فقط كنت سأسألها عن صحتها، وعن السيلان الذي كانت تعاني منه، وأطمئنها أن كل الرفاق تعافوا منه بعشرين إبرة في مؤخراتهم المغبرة، فقط كنت سأسألها عن الثلج الذي قالت أنه يتراكم فوق منزلها طوال العام، وعن الساحة الحمراء، والصواريخ النووية، والعمال، والفلاحين، والقطارات، والغواصات، والعدالة الاجتماعية، وطابور المؤسسات، وعن صحة ستالين، و" دماغ لينين "، وعن السيد كوماكوف والدها الذي أصيب بجلطة دماغية من شدة كراهيته لأميركا، وكنت سأشكرها بحرارة على مواقف بلادها المبدئية من بلادنا، وأؤكد على الروابط العميقة التي تجمع الشعبين، وألفت نظرها إلى التشابه الفريد بين أحرف اسمي البلدين، وأن لطائراتهم، ودباباتهم، وناقلاتهم للجنود، وسيارات الجيب واظ، واللادا، فضل كبير، وأن المنشورات التي كانت تلقيها علينا طائرات الهوليكوبتر في أعياد العمال والفلاحين والكادحين والمعلمين والمصانع والشجرة وحركات التحرر العالمي، ما تزال مزروعة في وجداننا، وأني سأبقى ممتناً لها على آلاف شهادات الدكتوراه والماجستير التي وردتنا من بلادها العتيدة .
لو أنها ترفع سماعة الهاتف… فقط لأستفسر عن شروط الحصول على الجنسية، وأحدثها عن صورة كارل ماركس الذي كنت أعتقده جدي، وعن الكتاب الأحمر، والمبادئ العشرة، وكيف أن كل أصدقائي القدامى كانوا قبل أن يصابوا بأزماتهم النفسية، شيوعيين حتى العظم، يطلقون لحاهم ويعزفون على الجيتار ويشربون الفودكا، ويضاجعون الرفيقات قبل الاجتماعات وبعدها على أسرّة السكن الجامعي، وبغمضة عين تحولوا جميعاً إلى مجاهدين في أفغانستان يبغون مرضاة الله والشهادة.
فقط كنت سأذكرها أن تضع لي وردة على قبر دستويفسكي، وورقة صغيرة أرسلتها معها على قبر تشيخوف، وأن ترسل لي نسخة من فيلم "الغجر يصعدون إلى السماء"، ومنظار، ولتر سميرانوف أصلي، وسأقول لها كم كنت مجحفاً بحقها حين رفضتُ مساعدتها بـ" التشينج فيزا" ولم أرسل لها بطاقات الهاتف مدفوعة الثمن، وأن المدينة هنا لم تعد تطاق، وأنها كانت ولا تزال أجمل النساء وألطفهن، وأن لأيامي معها نكهة الحياة وحبوب النعناع التي كنا نبتلعها قبل صعودنا إلى السرير، وأني اشتريت كتاب تعلم اللغة الروسية بخمسة أيام . . . فقط لو أنها تجيب لأقول لها خرشو… خرشو…فقط أن تجيب لمرة واحدة فقط.
ألوا …هل يسمعني أحد في موسكو .
-2-
لأنها لم تجد من يستجيب لها في ذلك الليل، ولأنه لا أحد يجيب في موسكو، استسلمت للّصوص الذين سرقوا ذهبها وتحويشة العمر التي جمعها زوجها الذي مات موصياً إياها أن تبني لابنهما الوحيد حين يعود من روسيا منزلاً صغيراً، وأن تزوجه فتاة مكسورة العين منتوفة الريش.
في الصباح اجتمع الناس متأسفين على ما جرى، حالفين بأغلظ الأيمان أنهم لم يسمعوا شيئاً، ضربوا أكفهم ببعضها البعض، وأخرجوا خناجرهم، وبنادقهم المرخصة وغير المرخصة، متعاهدين على حماية هذه الأرملة الوحيدة، فهي أمانة بأعناقهم، وقرّروا وضع حارس بصفارة توقظ أهل الحي والأحياء المجاورة.
ولولت المرأة، وكشفت شعرها صارخة حتى انتفخت عروق رقبتها وازرقت دون جدوى، ولأن لا أحد يجيب في موسكو، لم تجد بداً من الاستسلام للّصوص الذين سرقوا هذه المرة التلفاز، وغسالة الثياب، والبراد الذي لم تكمل أقساطه، وخلاط المولينكس الذي لم تستخدمه غير مرة واحدة كنوع من التدريب.
رجال الحي لعنوا حظهم ونومهم الثقيل، وهددوا بطلاق نسائهم إن تكرر الأمر مرة أخرى، أما الحارس أبو صفارة الذي غلبه النوم، والنوم سلطان، طبقوا عليه حد التخاذل، بالجلد خمس جلدات وألا تقبل حراسته مرة أخرى، ولأن الرجال أكدوا للمرأة أن الشرطة لن تفعل أكثر من السين والجيم وتقيّد الحادثة ضد مجهول، رضخت لخطتهم بعد أن أعطوها مشغلاً لاسلكياً لأذان الجامع المجاور، فالأذان سيوقظ أهل المنطقة بأسرها، وسيمزقون اللصوص إلى أصغر قطع ممكنة.
اللصوص هذه المرة، وبعد استسلام المرأة التي لم يجبها أحد في موسكو، سرقوا أثاث المنزل ولم يتركوا غير حصيرة صغيرة وفرشة إسفنجية قديمة، وأهل الحي الذين اشتد غيظهم وضعوا المسؤولية في ذقن إمام الجامع لأنه لم يضع بطاريات في مشغل الأذان اللاسلكي، ولعنوا الدولة التي تشغلهم كالحمير، حتى إذا ما ناموا عجزوا عن سماع استغاثات جارتهم الأرملة الوحيدة.
المرأة التي سلمت أمرها لربها، بعد أن رأت ذهبها في أيدي نسوة الحي، وأغراضها متوزعة بين المنازل المجاورة، ويئست من أن يجيبها أحد في موسكو، لم تجد حين دخل اللّصوص منزلها إلا كشف عورتها الغليظة والرقيقة، لأنها لم تعد تملك أي شيء ليسرق، لم تصرخ ولم تولول، ولم تجرب الاتصال، فقط استلقت على فرشتها الإسفنجية جاهزة لاغتصاب جماعي وشيك، لكن اللّصوص غضوا أبصارهم، نزع أحدهم معطفه ورماه عليها، كل شيء إلا انتهاك أعراض الناس، استغفروا ربهم، وصاموا خمسة أيام بعد أن أطعموا عشرة مساكين من بعض المؤونة التي وجدوها في المنزل، وقرروا طرد هذه الأرملة من الحي، فهي سيئة، وتفتح رجليها لمن هبَّ ودب، مؤكدين وهم يتقاسمون ثمن منزلها أن المرأة العفيفة تضحي بحياتها دفاعاً عن شرفها.
في موسكو كانت الأمور تسير من سيء لأسوأ، ضاع الولد أو قتل بعد أن تطوع ناقماً من ضياع أحلامه مع المجاهدين في الشيشان، بينما راحت الأم التي فقدت عقلها، تستجدي المساعدة على أبواب السفارات، والجوامع، والكنائس ذات الأجراس الكبيرة
بقلم : أيلول سكيف